فصل: تفسير الآية رقم (152):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (150):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [150].
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} أي: شديد الغضب على قومه لعبادتهم العجل، وحزيناً أي: على ما فاته من مناجاة ربه {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ} أي: بئسما عملتم خلفي، أو قمتم مقامي، وكنتم خلفائي من بعدي والخطاب إما لعبدة العجل، من السامري وأشياعه، أو لوجوه بني إسرائيل، وهم هارون عليه السلام والمؤمنون معه. ويدل عليه قوله: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي}، وعلى التقدير يكون المعنى: بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوا من عبادة غير الله تعالى.
قال الرازي: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} أي: ميعاده الذي وعدنيه من الأربعين، فلم تصبروا إلى تمامها، وكانوا استبطأوا نزوله من الجبل، فتآمروا في صنع وثن يعبدونه، وينضمون إليه، وفعلوا ذلك وجعلوا يغنون ويرقصون ويأكلون ويشربون ويلعبون حوله ويقولون: هذا الإله الذي أخرجنا من مصر- عياذاً بالله-.
وقال أبو مسلم: معناه سبقتم أمر الله، فعبدتم ما لم يأمركم به: {وَأَلْقَى الألْوَاحَ} أي: طرحها من شدة الغضب، وفرط الضجرة بين يديه فتكسرت، وهي ألواح من حجارة كتب فيها الشرائع والوصايا الربانية، وإنما ألقاها، عليه السلام، لما لحقه من فرط الدهش عند رؤيته عكوفهم على العجل، فإنه عليه السلام لما نزل من الجبل، ودنا من محلتهم رأى العجل ورقصهم حوله، اتقد غضبه فألقاها غضباً لله، وحمية لدينه، وكان هو في نفسه حديداً، شديد الغضب، وكان هارون ألين منه جانباً، ولذلك كان محبباً إلى قومه.
تنبيه:
قال السيوطي في الإكليل: استدل ابن تيمية بقوله تعالى {وألْقَى الألواحَ} على أن من ألقى كتاباً على يده، إلى الأرض وهو غضبان، لا يلام. انتهى. وهو ظاهر.
{وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} أي: بشعره {يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} ظناً أن يكون قصر في نهيهم، كما قال في الآية الأخرى: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} وقال ههنا: {قَالَ ابْنَ أُمَّ} قرئ الفتح والكسر.
وأصله يا ابن أمي، خفف بحذف حرف النداء والياء، وذكر الأم ليرققه عليه، وقوله: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} إزاحة لتوهم التقصير في حقه.
والمعنى: بذلت وسعي في كفّهم حتى قهروني واستضعفوني، وقاربوا قتلي، {فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء} أي: بالإساءة إلي. الشماتة سرور الأعداء بما يصيب المرء {وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: في عقوبتك لي، في عدادهم، أو لا تعتقد أني منهم، مع براءتي وعدم تقصيري.
قال الجشمي: تدل الآية على أن الأمر بالمعروف قد يسقط في حال الخوف على النفس، وفي الحال الذي يعلم أنه لا ينفع، لذلك قال هارون: {اسْتَضْعَفُونِي}. وتدل على أن الغضب والأسف على المبتدع محمود في الدين. انتهى.

.تفسير الآية رقم (151):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [151].
{قَالَ} أي: موسى عليه السلام، متضرعاً إلى ربه استنزالاً لرحمته، وتعوذاً بمغفرته من سخطه، ولا يخفى اقتضاء المقام لذلك: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
وقال الزمخشري: لما اعتذر إليه أخوه، وذكر له شماتة الأعداء قال: {ربِّ اغْفِرْ لِي ولأخِي} ليرضي أخاه، ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه، فلا تتم لهم شماتتهم. واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه ولأخيه أن عسى فرط في حسن الخلافة، وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة.

.تفسير الآية رقم (152):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [152].
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} أي: من افترى بدعة، فإن ذل البدعة ومخالفة الرسالة على كتفيه، كما قال الحسن البصري: إن ذل البدعة على أكتافهم، وإن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين.
وهكذا روى أيوب عن أبي قلابة الجَرْمي أنه قرأ هذه الآية {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} قال: هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة.
وقال سفيان بن عيينة: كل صاحب بدعة ذليل.
ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل التوبة من أي: ذنب كان، ولو كفراً بقوله:

.تفسير الآية رقم (153):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [153].
{وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا} إلى الله: {وَآمَنُواْ} أي: أخلصوا الإيمان {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: محاء لذنوبهم، منعم عليهم بالجنة.

.تفسير الآية رقم (154):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [154].
{وَلَمَّا سَكَتَ} أي: سكن: {عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ} أي: التي كان ألقاها من شدة الغضب فتكسرت {وَفِي نُسْخَتِهَا} أي: فيما نسخ منها، أي: كتب.
والنسخة فعلة بمعنى مفعول، كالخطبة: {هُدًى وَرَحْمَةٌ} بالشرائع والوصايا الربانية، المرشدة لما فيه الخير والصلاح: {لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أي: يخشون.
لطيفتان:
الأولى: قال أبو السعود: في هذا النظم الكريم، يعني قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} من البلاغة والمبالغة بتنزيل الغضب، الحامل له على ما صدر عنه من الفعل والقول، ومنزلة الآمر بذلك، المغرى عليه بالتحكم والتشديد، والتعبير عن سكونه بالسكوت- ما لا يخفى- انتهى.
وأصله للزمخشري حيث قال: هذا مثلٌ، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له: قل لقومك كذا، وألق الألواح، وجر برأس أخيك إليك فترك النطق بذلك، وقطع الإغراء. ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سُلَيم، وذوق صحيح إلا لذلك، ولأنه من قبيل شعب البلاغة، وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة {وَلَمَّا سَكَنَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} لا تجد النفس عندها شيئاً من تلك الهمزة، وطرفاً من تلك الروعة؟ انتهى.
ومراده بالمثل كونه استعارة مكنية، حيث شبه الغضب بشخص آمرٍ ناهٍ، وأثبت له السكوت تخييلاً.
وعد بعض أهل العربية الآية من المقلوب، أي: من نمط قلب الحقيقة إلى المجاز، وكأن الأصل: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} كما في خرق الثوب المسمار.
قال في الإنتصاف والتحقيق أنه ليس منه، وأن هذا القلب أشرف وأفصح، لما فيه من المعنى البليغ، وهو أن الغضب كان متمكناً من موسى، حتى كأنه كان يصرفه في أوامره. ومثل هذه النكتة الحسناء، لا تلفى في خرق الثوب المسمار.
انتهى.
وقرئ {سكن} و{سكَّت} و{أسكت} أي: أسكته الله، أو أخوه باعتذاره إليه.
الثانية- اللام في للذين متعلقة بمحذوف، صفة لرحمة، أي: كائنة لهم، أو هي لام الأجل، أي: هدى ورحمة لأجلهم: واللام في لربهم لتقوية عمل الفعل المؤخر كما في قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ}، أو هي أيضاً لام العلة، والمفعول محذوف، أي: يرهبون المعاصي لجل ربهم، لا للرياء والسمعة- أفاده أبو السعود-.

.تفسير الآية رقم (155):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [155].
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا}.
روى محمد بن إسحاق أن موسى عليه السلام، لما رجع إلى قومه فرأى ما هم فيه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرق العجل، وذراه في اليم، اختار من بني إسرائيل سبعين رجلاً، الخير فالخير، وقال: انطلقوا إلى الله، فتوبوا إليه مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا، وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون- فيما ذكر لي- حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه، لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل.
فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً، فسمعوه وهو يكلم موسى، يأمره وينهاه، افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره، انكشف عن موسى الغمام، أقبل إليهم، فقالوا لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة} وهي الصاعقة التي يحصل منها الإضطراب الشديد، فماتوا جميعاً فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ} قد سفهوا، أتهلك من ورائي من بني إسرائيل؟
وفي رواية السدّي: فقام موسى يبكي ويقول: يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم، وقد أهلكت خيارهم {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ}.
وقال ابن إسحاق: اخترت منهم سبعين رجلاً، الخيّر فالخير، أرجع إليهم، وليس معي رجل منهم واحد، فما الذي يصدقونني أو يأمنونني عليه بعد هذا؟ وعلى هذا فالمعنى: لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني.
وقال الزجاج: المعنى لو شئت أمتهم من قبل أن تبتليهم، بما أوجب عليهم الرجفة. انتهى.
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان بعد نقل كلام من ذكرنا: وهؤلاء كلهم حاموا حول المقصود، والذي يظهر- والله أعلم بمراده ومراد نبيه- أن هذا استعطاف من موسى عليه السلام لربه، وتوسل إليه بعفوه عنهم من قبل، حتى عبد قومهم العجل، ولم ينكروا عليهم، يقول موسى: إنهم قد تقدم منهم ما يقتضي هلاكهم، ومع هذا فوسعهم عفوك ومغفرتك، ولم تهلكهم، فيسعهم اليوم ما وسعهم من قبل، وهذا كمن واخذه سيده بجرم يقول: لو شئت واخذتني قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجرم، ولكن وسعني عفوك أولاً، فيسعني اليوم.
ثم قال نبي الله: أهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ فقال ابن الأنباري وغيره: هذا استفهام على معنى الجحد، أي: لست تفعل ذلك، والسفهاء هنا عَبْدة العجل.
قال الفرّاء: ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ قومهم العجل، فقال: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ وإنما كان إهلاكهم بقولهم: {أرِنا اللَّهَ جَهْرَةً}. انتهى.
واستظهار أن هذا استفهام استعطاف، سبقه إليه المبرد.
تنبيه:
قال في اللباب: معظم الروايات أنهم ماتوا بسبب تلك الرجفة، أي: ثم أحيوا.
وقال وهب بن منبه: لم تكن تلك الرجفة موتاً، ولكن القوم لما رأوا تلك الهيئة، وأخذتهم الرعدة وقلقوا ورجفوا، حتى كادت أن تبين مفاصلهم فلما رأى موسى ذلك، راحمهم وخاف عليهم الموت، واشتد عليه فقدهم، وكانوا له وزراء على الخير، سامعين له مطيعين، فعند ذلك دعا موسى وبكى وناشد ربه، فكشف الله عنهم تلك الرجفة، فاطمأنوا وسمعوا كلام الله. والله أعلم.
{إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء} أي: ما الفتنة التي وقع فيها السفهاء إلا اختبارك وابتلاؤك، وامتحانك لعبادك فأنت ابتليتهم وامتحنتهم، فالأمر كله لك وبيدك، لا يكشفه إلا أنت، كما لم يمتحن به ويختبر إلا أنت. فنحن عائدون بك منك، ولاجئون منك إليك.
يعني إن الأمر إلاَّ أمرك، والحكم إلا لك فما شئت كان، تضل من تشاء وتهدي من تشاء.
قال: {أَنتَ وَلِيُّنَا} أي: متولي أمورنا القائم بتا {فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ}.

.تفسير الآية رقم (156):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [156].
{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} أي: أثبت لنا فيها خصلة حسنة، كالعافية والحياة الطيبة، والتوفيق للطاعة: {وَفِي الآخِرَةِ} أي: حسنة أيضاً، وهي المثوبة الحسنى والجنة.
{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي: تبنا إليك. يقال: هاد إليه يهود، إذا رجع وتاب، فهو هائد. ولبعضهم:
يا راكب الذنب هُدْ، هُدْ واسجد كأنك هُدْهُدْ

وقال آخر:
إني أمرؤ مما جَنَيْتُ هائِدُ

قال أبو البقاء: المشهور ضم الهاء، وهو من هاد يهود إذا تاب.
وقرئ بكسرها، من هاد يهيد إذا تحرك أو حرك، أي: حركنا إليك نفوسنا، وعلى القراءتين، يحتمل الوجهين، البناء للفاعل وللمفعول، بمعنى ملنا أو أمالنا غيرنا، أو حركنا أنفسنا، أو حركنا غيرنا، وذلك لاتحاد الصيغة وصحة المعنى، وإن اختلف التقدير.
{قَالَ} استئناف وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الكلام، كأنه قيل: فماذا قال تعالى في جواب دعاء موسى؟ فقيل قال: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء} أي: تعذيبه من العصاة {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} تطلق الرحمة على التعطف والمغفرة والإحسان المراد هنا، بدليل مقابلتها بالعذاب قبل، كما قابل الآية التي ذكرناها بقوله: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}، والله أعلم.
{فَسَأَكْتُبُهَا} أي: هذه الرحمة: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي: الكفر والشرك والفواحش {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي: يعطون زكاة أموالهم {وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا} أي: بكتابنا ورسولنا: {يُؤْمِنُونَ} أي: يصدقون.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على حسن سؤال نعيم الدنيا، كما يحسن سؤال نعيم الآخرة، وتدل على أن الواجب على الداعي أن يقرن بدعائه التوبة والإخلاص، لذلك قالوا: {إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ}.
وتدل على أنه تعالى ينعم على البر والفاجر، ويخص بالثواب المؤمن، فلذلك فصل، ومن تأمل هذا السؤال والجواب، عرف عظيم محل هذا البيان، لأنه عليه السلام، سأل نعيم الدنيا والدين عقيب الرجفة، فكان من الجواب أن العذاب خاصة يصاب به من يستحقه، فأما النعم فما كان من باب الدنيا يسع كل شيء يصح عليه التنعم، وما كان من باب الآخرة يكتب لمن له صفات ذكرها.
وتدل على أن الرحمة لا تنال بمجرد الإيمان الذي هو التصديق، حتى ينضم إليه الطاعات، فيبطل قوله المرجئة.